فصل: الأول: في سبب وجوبه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


كتاب الحج‏.‏

وفي ‏(‏الصحاح‏)‏ هو في اللغة‏:‏ القصد، ورجل محجوج مقصود، وحج فلان فلانا أي أطال الاختلاف إليه، والحج بالكسر‏:‏ الاسم، والحجة‏:‏ المرة الواحدة، وهو شاذ؛ لأن القياس‏:‏ الفتح، وهي أيضا شحمة الأذن‏.‏

قال سند‏:‏ الحج‏:‏ التردد للقصد، قال الخليل‏:‏ هو كثرة القصد، وسميت الطريق‏:‏ محجة لكثرة التردد، ووافغه صاحب ‏(‏المقدمات‏)‏ وقيل‏:‏ إنما سمي الحاج حاجا لأنه يتكرر للبيت لطواف القدوم والإفاضة، والوداع، والمصدر‏:‏ حج بفتح الحاء وكسرها، وقرئ بهما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت‏)‏‏.‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 97‏)‏ والحجيج والحجاج‏:‏ جمع حاج، ثم نقل الحج في الشرع إلى قصد مخصوص كسائر الأسماء الشرعية‏.‏

تنبيه‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ ولم يقل في الصلاة وغيرها‏:‏ لله؛ لأنهما مما يكثر الرياء فيهما جدا، ويدل على ذلك الاستقراء حتى إن كثيرا من الحجاج لا يكاد يسمع حديثا في شيء من ذلك إلا ذكر ما اتفق له أو لغيره في حجه، فلما كانا مظنة الرياء قيل فيهما‏:‏ لله‏.‏ اعتناء بالإخلاص‏.‏

فائدة‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏ تشبيهه يوم الخروج من البطن يقتضي أن لا تبقى عليه تبعات العباد، ولا قضاء الصلوات، ولا الكفارات، وجوابه‏:‏ أن لفظ الذنوب لا يتناول هذه الأمور؛ لأن ثبوت حقوق الله تعالى وحقوق عباده في الذمة ليس ذنبا، وإنما الذنب المطل بالحقوق بعد تعينها، ولا يتناول الحقوق البتة، نعم يتناول المطل بحقوق العباد، لكن انعقد الإجماع على أن حق العبد موقوف على إسقاطه، فيكون مخصوصا من الحديث، فيتخلص‏:‏ أن الذي يسقط الحج‏:‏ إثم مخالفة الله تعالى فقط‏.‏

سؤال‏:‏ كيف يسوي الله بين الفعل العظيم والحقير في الجزاء مع قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أجرك على قدر نصبك‏)‏ فالغفران قد رتبه الله على الحج المبرور، ورتبه على قيام رمضان، وقيام ليلة القدر، وموافقة التأمين تأمين الملائكة، وعلى التوبة‏؟‏ جوابه‏:‏ استوت هذه الأمور في التكفير، واختلفت في رفع الدرجات‏.‏

قاعدة‏:‏ قال سند‏:‏ قال مالك‏:‏ الحج أفضل من الغزو، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

بني الإسلام على خمس‏)‏ فذكر الحج‏.‏ ولم يذكر الغزو، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يكثر الحج ولا يحضر الغزو، مع أنه قد ورد‏:‏ ‏(‏ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كنقطة في بحر‏)‏ فيجوز أن يحمل على ما إذا تعين، ويكون جوابا في حق سائل لفرط شجاعته، كما سئل عليه السلام‏:‏ ‏(‏

أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ بر الوالدين‏)‏، وسئل مرة أخرى فقال‏:‏ ‏(‏

الصلاة لأول وقتها‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ وأفضل أركان الحج‏:‏ الطواف؛ لأنه مشتمل على الصلوات، وهو في نفسه مشبه بالصلاة، والصلاة أفضل من الحج، فيكون أفضل الأركان، فإن قيل‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

الحج عرفة‏)‏ يدل على فضيلة الوقوف على سائر الأركان؛ لأن تقديره‏:‏ معظم الحج وقوف عرفة، لعدم إنحصار الحج فيه بالإجماع، قيل‏:‏ بل يقدر غير ذلك وهو‏:‏ إدراك الحج وقوف عرفة، وهذا مجمع عليه، فيكون أولى من المختلف فيه، وقد صرح مالك بأن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة بخلاف المكيين، فيحتمل أن يفضله على سائر الأركان، ويحتمل غير ذلك‏.‏

ويتمهد فقه هذا ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ في بيان سبب وجوب الحج، وشروطه، وموانعه، وسوابقه، ومقاصده، ولواحقه، ومحظوراته‏.‏ وأوضح ذلك إن شاء الله تعالى على هذا الترتيب في أحد عشر بابا‏.‏

الأول‏:‏ في سبب وجوبه

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏‏.‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 97‏)‏ وترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك الوصف لذلك الحكم، كقولنا‏:‏ زنا فرجم، وسها فسجد، وسرق فقطعت يده، وقد رتب الله تعالى الوجوب بحرف ‏(‏على‏)‏ مع الاستطاعة فتكون سببا له، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هي معتبرة بحال المكلف في صحته وماله وعادته وقدرته من غير تحديد، وذلك يختلف ببعد المسافة وقربها، وكثرة الجلد وقلته، قال‏:‏ فعلى المشهور‏:‏ من قدر على المشي وجب عليه، وإن عدم المركوب، وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا، وكذلك من لا يجد إلا البحر إلا أن يكون غالبه العطب، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ أو يعلم أنه يبطل الصلوات بالميد، ولو كان لا يجد موضعا لسجوده للضيق إلا على ظهر أخيه، قال مالك‏:‏ لا يركب، قال سند‏:‏ ولمالك‏:‏ لا يحج الرجل في البحر إلا مثل الأندلس الذين لا يجدون البر، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يأتوك رجالا وعلى كل ضامر‏)‏‏.‏ ‏(‏الحج‏:‏ 27‏)‏ ولم يذكر البحر‏.‏ واختلف فيه قول ‏(‏ش‏)‏، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يختلف في إلزام المرأة الحج إذا عدمت المرأة الولي ووجدت رفقة مأمونين، ومع الحاجة إلى البحر‏:‏ قال سند‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ وإذا ذكر العشاء صلاها؛ وإن فاته الحج فقدم الصلاة الواحدة على الحج، وعلى قول أشهب في الجمعة‏:‏ إذا تعذر عليه السجود سجد على ظهر أخيه يجزئه في البحر ولا يسقط عنه، وخرج بعض المتأخرين العجز عن القيام على ذلك، وليس كذلك؛ لأن السجود ركن بدليل سقوط القيام في النوافل والمسبوق، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يسقط إذا كان في الطريق عدو يطلب النفس، أو من المال ما لا يتجدد، أو يتجدد ويجحف، وفي غير المجحف خلاف، وقال أصحاب ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏‏:‏ وإذا لم يمكنه السفر إلا بدفع شيء من ماله‏:‏ لا يلزمه الحج ويجب على عادته السؤال إذا غلب على ظنه أنه يجد من يعطيه، وقيل‏:‏ لا يلزمه؛ ولو لم يكن عنده إلا عروض التجارة وجب عليه أن يبيع منها ما يباع للدين، وألزمه ابن القاسم بيع فرسه وترك أولاده بغير شيء بل للصدقة‏.‏

وقال ابن حبيب والأئمة‏:‏ الاستطاعة زاد ومركب، لما في أبي داود‏:‏ ‏(‏أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، ما يوجب الحج‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة‏)‏ وجوابه‏:‏ أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له‏.‏ أو لعله حال مفهوم السائل، وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏(‏من استطاع إليه سبيلا‏)‏ يقتضي أن كل أحدا على حسب حاله، فإن الاستطاعة القدرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏)‏‏.‏ ‏(‏النساء‏:‏ 129‏)‏ ويؤكده أن من كان دون مسافة القصر لا تعتبر الراحلة في حقه إجماعا، فلو كانت شرطا في العبادة لعمت، وكذلك الزاد، قد يستغني عنه من قربت داره، فليسا مقصودين لأنفسهما بل للقدرة على الوصول، وإذا تيسر المقصود بدون وسيلة معينة سقط اعتبارها‏.‏

قال سند‏:‏ قال مالك‏:‏ ويقدم الحج على زواجه ووفاء دين أبيه، ولو قلنا‏:‏ أن الحج على التراخي، خشية العوائق، والحج قربة والنكاح شهوة، وإن قلنا‏:‏ على الفور وجب، ودين الأب لا يجب، إلا أن يخاف العنت فيتزوج؛ لأن مفاسد الزنا أعظم، والمرأة إذا قلنا‏:‏ لزوجها منعها‏:‏ قدمت الحج، وإلا فلا، وعلى التقديرين‏:‏ لو تزوجت المرأة أو الرجل فالنكاح صحيح، ولا يجوز زواج الأمة لتوفير المال للحج لوجود الطول، ولو شق عليه ركوب القتب والمحمل مشقة لا يمكنه تحملها لم يلزمه، وإذا كان عنده من تلزمه نفقته وقلنا‏:‏ الحج على التراخي، اعتبرنا قدرته على النفقة ذاهبا وراجعا، وما ينفقه على مخلفيه في غيبته، فإن كانت له حرفة يعملها في سفره اعتبرنا نفقة أهله فقط، وإن قلنا‏:‏ هو على الفور، قدم على نفقة الزوجة؛ لأن صبرها بيدها، ونفقة بعض الأقارب المتأخرين مواساة تجب فيما يفضل عن الضرورة، فإن وجد النفقة لذهابه فقط‏:‏ قال بعض المتأخرين‏:‏ يجب عليه إلا أن يخشى الضياع هناك، فتراعى نفقته العود إلى أقرب المواضع إلى موضع يعيش فيه، وإذا لم يكن له مال وبذل له لم يلزمه قبوله عند الجميع؛ لأن أسباب الوجوب لا يجب على أحد تحصيلها، وكذلك لو بذل له قرضا؛ لأن الدين يمنع الحج، وإن غصب مالا فحج به أجزأه حجه عند الجمهور، وقال ابن حنبل‏:‏ لا يجزئه؛ لأنه سبب غير مشروع فلا يجزئ كأفعال الحج، وهو على أصله في الصلاة في الدار المغصوبة، وجوابه‏:‏ أن النفقة أجنبية عن الحج بل هو كمن غرر بنفسه وحج فإنه يجزئه‏.‏

الثاني‏:‏ في الشروط

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هي أربعة‏:‏ البلوغ، والعقل، والحرية لما في أبي داود قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أيما صبي حج به أهله فمات أجزأ عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما عبد حج به أهله أجزأ عنه، فإن أعتق فعليه الحج‏)‏ والإسلام يجري على الخلاف بخطاب الكفار بالفروع، وهو المشهور، فلا يكون شرطا في الوجوب، ووافقنا الأئمة في الأربعة، وزاد الشافعي شرطين‏:‏ تخلية الطريق، وإمكان السير، وهما – عندنا - من فروع الاستطاعة، وزاد ‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل‏:‏ سابعا، وهو ذو المحرم في حق المرأة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏

لا تحجن المرأة إلا مع ذي محرم‏)‏ وفي مسلم‏:‏ ‏(‏نهى عليه السلام أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم‏)‏ وجوابه‏:‏ المعارضة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏‏.‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 97‏)‏ والقياس على الهجرة، وما ذكروه محمول على التطوع أو حالة الخوف، قال مالك في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ تحج بلا ولي مع رجال ونساء مرضيين، وإن امتنع واليها، وقال‏:‏ تخرج مع المرأة الواحدة المأمونة، إذا اثبت أن الحرم ليس شرطا‏:‏ فهل تخرج مع الرجال الثقات‏؟‏ قال سند‏:‏ منعه ابن عبد الحكم، قال سند‏:‏ وهو محمول على الكراهة، قال سند‏:‏ وهذا في حجة الإسلام، أما في غير الفرض فلا تخرج إلا مع ذي محرم، قاله‏:‏ ابن حبيب لعموم النهي، قال سند‏:‏ فعدم هذه الشروط قد تقتضي عدم الوجوب والصحة، كالعقل والإسلام على الخلاف فيه، أو الوجوب والإجزاء عن الفرض دون النفل كالبلوغ والحرية، وأما عدم السبب الذي هو الاستطاعة فيمنع الوجوب دون الإجزاء‏.‏

فروع ثلاثة‏:‏ الأول، إذا اجتمعت الشروط مع السبب قال سند‏:‏ فإن كان الوقت واسعا كان الوجوب موسعا، فإن مات سقط عنه، فإن فات الحج استقر في ذمته، فإن مات سقط عنه، ولا يلزم الورثة إذا لم يوص به، وقاله ‏(‏ح‏)‏، وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏:‏ في رأس ماله، والظاهر من قول مالك في تأخير الحج بمنع الوالدين، وقول ابن القاسم في منع الزوج الزوجة منه يقتضي أنه على التراخي، وقاله ‏(‏ش‏)‏ وقال ابن القاسم في ‏(‏الموازية‏)‏‏:‏ له مخالفة أبويه في الفريضة، وقول أشهب‏:‏ ليس للزوج منع زوجته‏:‏ يقتضي الفور، وقاله ‏(‏ح‏)‏ وحكاه العراقيون، وهو المشهور، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ قال ابن محرز وغيره من المتأخرين‏:‏ مسائل المذهب تدل على التراخي، قال أبو الطاهر‏:‏ ويمكن أن يكون أمر الآباء وغيرهم من باب تعارض الواجبين، لا لأنه على التراخي، حجة ‏(‏ش‏)‏‏:‏ أن فرض الحج نزل سنة ست وأخره عليه السلام إلى سنة عشر، وحج أبو بكر - رضي الله عنه - سنة تسع، أمره النبي عليه السلام وقعد بالمدينة من غير مانع، وتأخر معه أكثر الناس، ولم يسألهم عن أعذارهم، ولأنه لو كان على الفور يسمى قضاء بعد ذلك، كما إذا أحرم به، ولأن المقصود المهم منه إنما هو ثواب الآخرة، وهو يتأخر ولا يفوت، بخلاف الزكاة وغيرها تفوت المصلحة المقصودة منها بالتأخير، والجواب عن الأول‏:‏ أن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ هو الذي نزل في سنة ست، وهو لا يقتضي وجوب الحج بل إتمامه، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع‏)‏‏.‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 97‏)‏ نزل سنة تسع ولعل الوقت كان لا يتسع‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن القضاء لا يكون إلا فيما يتعلق بوقت معين كالصلوات، وكذلك إذا أحرم تعين الوقت، بدليل أن رد الغصوب ووفاء الديون إذا تأخرت لا تسمى قضاء، وإن كانت فورية‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الثواب قد يفوت بالموت، نعم هو يحسن فارقا لا مستندا متأصلا، ويوضح مذهبنا‏:‏ أن الأمر على الفور، وإنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فتكون على الفور كالصوم، قال سند‏:‏ وإذا قلنا بالتراخي فما لم يخف العجز كالكفارات، فعلى هذا إذا اخترمته المنية لا يأثم، وقال بعض الشافعية‏:‏ يأثم لأن التأخير جوز بشرط السلامة، واختلفوا في زمن الإثم‏:‏ فقيل‏:‏ أول سنة، وقيل‏:‏ بالتأخير عن آخر سنة الإمكان‏.‏

الثاني‏:‏ قال سند‏:‏ قال جماعة من العلماء‏:‏ الحج راكبا أفضل، اقتداء به عليه السلام، وجوابهم‏:‏ الإتفاق على أن من نذر الركوب أجزأه المشي من غير عكس، وفي البخاري قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار‏)‏ ولو مشى عليه السلام ما ركب أحد، وذلك مشقة عظيمة، ولأنه كان يركب ليراه الناس للمسألة، أو لفرط مشقة المشي عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفل جالسا‏.‏

الثالث‏:‏ في ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يكره التنفل بالحج قبل أداء فرضه، فإن فعل لا ينقلب فرضا بل نفل‏.‏

الثالث‏:‏ في الموانع‏.‏

وهي ثمانية، الأول‏:‏ الأبوة، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ للأبوين منع الولد من التطوع بالحج ومن تعجيل الفرض على إحدى الروايتين‏.‏

قاعدة‏:‏ إذا تزاحمت الواجبات، قدم المضيق على الموسع، والفوري على التراخي، والأعيان على الكفاية؛ لأن التضييق في الواجب يقتضي اهتمام الشرع به، وكذلك المنع من تأخيره، بخلاف ما جوز تأخيره، وكذلك ما أوجبه على كل أحد أهم عنده مما أوجبه على بعض الأفراد، والأهم مقدم عند التعارض، فلهذه القاعدة قدم حق الوالدين لكونه على الفور، وكذلك حق السيد، والزوج، والدين الحال‏.‏

المانع الثاني‏:‏ الرق، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ للسيد منع عبده إن أحرم بغير إذنه، ويتحلل إذا منعه كالمحصر‏:‏ وليس له تحليله بعد الإحرام بإذنه؛ لأنه أسقط حقه، قال سند‏:‏ ظاهر ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يقتضي أنه ليس له منعه بعد الإذن وإن لم يحرم وقال اللخمي‏:‏ إذا لم يحرم فله ذلك عند مالك، وهو قول ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏ بناء على أن التبرع لا يلزم بالقول، وإذا قلنا بمنعه فرجع في إذنه فلم يعلم العبد فأحرم، يخرج على تصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم بالعزل، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ له إحلاله خلافا ل ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، فإن إذنه له إعارة منافع، وله – عنده - الرجوع فيما أعاره له، والفرق على هذا التقدير‏:‏ تعلق حق الله تعالى بالإحرام، فهو كما لو أذن له ليرهن، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ ما لزمه من جزاء صيد خطأ، أو فدية لإماطة أذى من ضرورة، أو فوات حج بغير عمد، لا يخرجه من ماله إلا بإذن سيده‏.‏ فإن أذن له وإلا صام، ولا يمنعه الصيام وإن أضر به إلا أن يهدي عنه أو يطعم، وما أصابه عمدا فله منعه من الصيام الضاربة في عمله؛ لأن العبد أدخله على نفسه، وليس مر إذن السيد، وقال ابن حبيب‏:‏ ليس له منعه، نظرا لأصل الإذن، وعليه قضاء الحج الفائت إن أحرم بإذنه مع الهدي إذا أعتق، وإن أفسد حجه قال أشهب‏:‏ لا يلزم سيده أن يأذن له في القضاء؛ لأنها عبادة ثانية، وقال أصبغ‏:‏ عليه؛ لأنه من آثار إذنه، قال محمد‏:‏ والأول الصواب، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا باع رقيقه محرما جاز البيع وليس للمشتري إحلاله، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ قياسا على النكاح، وبيع المعتق والمريضة المجنونة وبيع السفن في الشتاء وقال سحنون في ‏(‏التبصرة‏)‏‏:‏ لا يجوز بيعه لتعذر الانتفاع به، وإذا صح البيع فالخيار للمشتري في الرد بالعيب إن لم يعلم، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ إن كان إحرامه بغير إذن سيده فله إحلاله؛ لأنه انتقل إليه ما كان للبائع، والبائع كان له إحلاله، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يرد المشتري البيع بحال؛ لأن له إحلاله، إذن البائع في الإحرام أم لا، قال ابن القاسم‏:‏ إذا أحرم بغير إذن سيده كان له فأحله، ثم أذن له عاما آخر فحج قضاء عما حلله أجزأه وإن أهدى عنه أو طعم لما حلله منه أجزأه وإلا صام هو ويجزئه، قال سند‏:‏ ينعقد إحرام العبد بغير إذن سيده عند الفقهاء كافة خلافا لأهل الظاهر، قياسا على الصوم والصلاة، ثم يجب على العبد الموافقة على التحليل، فإن لم يوافق وكمل الحج أثم ولا هدي عليه، وتحليله يكون بالنية والحلاق؛ لأن رفض النية وحده لا يبطل الإحرام، والحلق شأنه أن يكون بعد كمال النسك فأبطل الإحرام كالسلام إذا وقع في أثناء الصلاة فإنه يفتقر إلى النية في أثناء العبادة بخلاف آخرها، ولزوم الدم له في التحليل مبنى على أنه من بابا المحصر أو من باب فوات الحج، فعند أشهب من باب المحصر فلا يلزمه قضاء، وفي هدي المحصر خلاف، أشهب يوجبه، وابن القاسم لا يوجبه، ولابن القاسم‏:‏ أنه من باب الفوت ويلزمه الهدي، وجوز له في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ الإطعام فيه، والفوات لا إطعام فيه كأنه رأى أنه جزء فعله فأشبه الفدية، وقد أنكر يحي الإطعام ها هنا، وإذا قلنا‏:‏ الدم ها هنا للفوت لم يجز فيه طعام، وكان الصوم فيه عشرة أيام، وإن قلنا‏:‏ للتحليل فهو كالفدية، وأما القضاء‏:‏ فأسقطه مالك وأشهب قياسا على المحصر، ونظر في الأول؛ لأنه ها هنا واجب عليه، وإذا قلنا‏:‏ يلزمه، فللسيد منعه من الهدي؛ لأنه تصرف في ماله بغير إذنه، ويبقى في ذمته، وإذا أذن فمضى وأفسده‏:‏ قال أشهب‏:‏ لا يلزمه أن يأذن له في القضاء؛ لأن الإذن الأول ما تضمنه، وقال أصبغ‏:‏ يلزمه؛ لأنه من توابع الأول، وإذا أذن له ففاته الحج ففي ‏(‏الموازية‏)‏‏:‏ عليه القضاء والهدي إذا أعتق، وعلى قول أصبغ‏:‏ له أن يقضي قبل العتق، قال أشهب‏:‏ لا يمنعه الاعتمار للفوات إن كان قريبا وإلا منعه، ويبقى على إحرامه إلى قابل، أو يأذن له في العمرة، وإن أذن له ففعل ما يوجب فدية أو هديا‏:‏ ففرق ابن القاسم بين تعمده وما يضر بسيده من خطأه، وقاله الشافعي، وقال ابن حبيب‏:‏ لا يمنعه من الصيام وإن كان تعمد وأضر به، وإن أذن له في التمتع أو القران لم يمنعه من الصوم إذا لم يأذن له في الهدي، وأم الولد والمدبر والمعتق بعضه كالقن في ذلك، وأما المكاتب‏:‏ فله السفر فيما لا يضر بسيده، فيخرج ذلك على ما لا يضر وما لا يضر بالسيد، وقاله ابن القاسم‏.‏

المانع الثالث‏:‏ الزوجة، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ المستطيعة لفرض الحج ليس للزوج منعها على القول بالفور، وعلى القول بالتراخي فقولان للمتأخرين كالقولين في المبادرة لقضاء رمضان وأداء الصلاة لما فيه من براءة الذمة والمبادرة إلى القربات‏.‏

خشية الآفات، ولو أحرمت بالفرض لم يكن له تحليلها، قال بعض المتأخرين‏:‏ إلا أن يكون إحرامها ضارا بالزوج لاحتياجه إليها، كإحرامها من بلدها أو قبل الميقات، ويحللها من التطوع كالمحصر، فإن لم تفعل فللزوج مباشرتها وعليها الإثم دونه، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا حللها زوجها وهي صرورة ثم أذن لها من عامه فحجت أجزأها عن فريضة الإسلام، قال سند‏:‏ إذا كانت الزوجة أمة لا تحج إلا بإذن سيدها وزوجها عند مالك والأئمة، وقال محمد بن الحسن‏:‏ إذن السيد كاف؛ لأن السفر حق له، فيسافر بها ولو كره الزوج، وجوابه‏:‏ أن ذلك إذا كانت المنفعة عائدة على السيد، وها هنا ليس كذلك، فأشبه ما لو منعها من الزوج، وإذا كانت الزوجة حرة وأحرم زوجها بالحج‏:‏ فليس له منعها، وإن لم تكن ضرورة؛ لأنها لا تعطل عليه استمتاعا، وإن لم تحرم وهي ضرورة‏:‏ فقال مالك و‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل‏:‏ له منعها، وقال ابن القاسم‏:‏ ليس له منعها، والخلاف ينبني على الفور والتراخي، وإذا قلنا‏:‏ له المنع فله تحليلها، ووجوب الدم يخرج على ما تقدم في العبد‏.‏

المانع الرابع، استحقاق الدين وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ لمستحقه منع المحرم الموسر من الخروج، وليس له أن يتحلل، بل يؤدي، فإن كان معسرا أو الدين مؤجلا لم يمنعه من الخروج‏.‏

المانع الخامس، الإحصار بالعدو لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله، فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ وأجمع المسلمون على أن المراد‏:‏ التحليل، ولأنه عليه السلام أحرم بعمرة في سنة ست فصده المشركون فنحر ثم حلق هو وأصحابه إلا عثمان، قال اللخمي‏:‏ اختلف في‏:‏ حصر وأحصر، فقال أبو عبيدة‏:‏ أحصر بالألف في المرض وذهاب النفقة، وحصر في الحبس، لقول ابن عباس - رضي الله عنه -‏:‏ لا حصر إلا في عدو، وقال ابن فارس في ‏(‏مجمل اللغة‏)‏‏:‏ ناس يقولون‏:‏ حصره المرض وأحصره العدو عكس نقل أبي عبيدة، وقال ابن فارس‏:‏ الإحصار عن البيت بالمرض وغيره، فسوى، وقال أبو عمر، وحصرني وأحصرني‏:‏ إذا حبسني، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 273‏)‏ يريد أحصرهم الفقر، وقيل‏:‏ حصره إذا ضيق عليه، وأحصره إذا منعه شيئا وإن لم يضيق عليه غيره، فمن منع من الخروج من البلد فقد حصر؛ لأنه ضيق عليه، أو منع من دخولها فقد أحصر، قال‏:‏ وللمحصر بعدو خمس حالات يصح الإحلال في ثلاث، ويمنع في وجه، ويصح في وجه إن شرط الإحلال، فالثلاثة‏:‏ أن يكون العدو طارئا بعد الإحرام أو متقدما ولم يعلم، أو علم وكان يرى أنه لا يصده فصده، ففي هذه يجوز التحلل لفعله عليه السلام، فإنه كان يعتقد أن المشركين لا يصدونه، وإن علم أنهم يمنعونه أو شك‏:‏ لم يحل إلا أن يشترط الإحلال في صورة الشك، كما فعله ابن عمر - رضي الله عنهما - وإن صد عن طريق وهو قادر على الوصول من غيره، لم يجز له التحلل إلا أن يضر به الطريق الآخر، والبعد ليس بعذر‏.‏

فرعان‏:‏ الأول، في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ المحصر بعدو غالب أو فتنة في الحج أو عمرة‏:‏ يتربص ما رجا كشف ذلك ويتحلل بموضعه إذا أيسر حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه، وإن كان معه هدي نحره، ويحلق أو يقصر، ولا قضاء عليه ولا عمرة إلا الصرورة، فعليه حج الإسلام، وإن أخر إخلافه إلى بلده حلق ولا دم عليه، قال ابن القاسم‏:‏ وقال في موضع آخر‏:‏ لا يكون محصرا حتى يفوته الحج إلا أن لا يدركه فيما بقي فيتحلل مكانه، قال سند‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن أحصر ثم أحرم لا يحله إلا البيت؛ لأنه ألزم نفسه ذلك بعد العلم بالمنع، كالمسافر يصبح صائما في السفر، فإن تقدم الإحرام وكان لا يمكنه الحج ولو لم يحصر لم يتحلل؛ لأن المنع منه لا من العدو، وإن كان العدو المانع وهو كافر، ولم يبد القتال فهو بالخيار بين التحلل والقتال؛ لأنه لم يقاتل من صده مع علوه الصاد؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيدكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم‏)‏‏.‏

‏(‏الفتح‏:‏ 24‏)‏ وترك عليه السلام القتال لحرمة مكة، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ لا يجوز قتال الحاصر مسلما كان أو كافرا ولم يحك خلافا، قال سند‏:‏ وإن طلب الكافر مالا على الطريق‏:‏ كره دفعه نفيا للذلة، فإن كان الصاد مسلما فهو كالكافر في القتال؛ لأنه ظالم، قال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ وهو أولى بالتحلل، فإن طلب اليسير من المال دفعه ولم يتحلل كالحرابة، ولا ذلة فيه للإسلام، وإن أرادوا قتال الصادين جاز لهم لبس الدروع والآت القتال، وقال أشهب‏:‏ لا يحل المحصر إلى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة؛ لأنه الوقت الذي يظهر أثر الصد فيه، ولاحظ ابن القاسم بالسعي للجمعة إذا علم أنه لا يصل بعد السعي الطويل قطع من حينه، ووافقه ‏(‏ش‏)‏ قال ابن القاسم‏:‏ وليس للعمرة حد بل يتحلل وإن لم يخش الفوت؛ لأنه عليه السلام صد وهو محرم بعمرة ولم يتأخر، وقال عبد الملك‏:‏ يقيم مارجا إدراكها ما لم يضره ذلك؛ فإن قدر المحضر على إرسال الهدي فعل، وإن تعذر نحره في الحل، وإن كان عن واجب، وقاله ‏(‏ش‏)‏، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا ينحر إلا في الحرم، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏حتى يبلغ الهدي محله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ لنا‏:‏ القياس على الإحرام، ولا قضاء على المتطوع عند مالك و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، وقال ‏(‏ح‏)‏ يقضي؛ لأنه عليه السلام قضى لما صد، وسميت‏:‏ عمرة القضاء، وجوابه‏:‏ أن المصدودين كانوا ألفا وأربعمائة، والمعتمر معه نفر يسير، ولم ينقل أنه أمر أحدا بالقضاء، وإنما فعله عليه السلام استدراكا للخير، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ لا يقضي الصرورة الفرض خلافا للأئمة؛ لأنه وجب عليه الإحرام بالحج، وقد فعل جهده، وأسقط عنه الباقي الحصر، فبرئت ذمته، والقضاء إنما يجب بأمر جديد، والأصل عدمه‏.‏ لنا‏:‏ أن الأصل شغل الذمة بالواجب حتى يأتي به، وما لم يأت به تبقى مشغولة فيجب القضاء، قال سند‏:‏ النذر المعين كالتطوع، والنذر المضمون كفرض الإسلام، وأما الحلاق‏:‏ فقال أشهب‏:‏ إن أخره حتى ذهبت أيام منى فعليه هدي؛ لأن الحلاق من سبب التحلل، وقد وقع لابن القاسم أن النية لا تكفي في التحلل، والمشهور كفايتها، وقال شهب والأئمة‏:‏ على المحصر المتحلل الهدي لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإن أحصرتم فيما استيسر من الهدي‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ وجوابهم‏:‏ آنها نزلت في حصر المرض، أو المراد ما تيسر مقلدا، وهو ظاهر اللفظ، لا أنه يجب إنشاء هدي آخر، وإذا قلنا بالهدي فليس شرطا في جواز التحلل عند أشهب، خلافا ل ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏؛ لأن الهدي سبب التحلل، فلو كان شرطا لزم الدور، وإن لم يجد الهدي صام عشرة أيام عند أشهب وابن حنبل، كدم المتمتع وقال ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ش‏)‏‏:‏ يقيم حتى يجد الهدي وينحر عند أشهب في الحل والحرم، وخصصه ‏(‏ح‏)‏ بالحرم، وإذا كان مع المحصر هدي فنحره وهو غير مضمون، فحكمه في حل الأكل حكم ما إذا بلغ حله، بخلاف ما عطب من هدي التطوع قبل محله، لعدم التهمة، وأما المضمون‏:‏ فعلى القول بإجزاء الحج يجزئ الهدي‏.‏

الثاني، في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من أحصر بعد الوقوف فقد تم حجه، ولا تحله إلا الإفاضة، وقاله ‏(‏ح‏)‏، وعليه لجميع ما يفوته دم واحد، لاتحاد نية الترك؛ لأن التحلل في حكم الفسخ، والفسخ بعد الوقوف متعذر، فكذلك التحلل، قال سند‏:‏ وقال عبد الملك و‏(‏ش‏)‏‏:‏ إن كان الصاد بمكة، ولم يدخلها الحاج، ووقف وشهد المناسك، فليحل قياسا على ما قبل الوقوف، بجامع الضرورة، والفرق‏:‏ أنه بعد الوقوف يتمكن من إزالة الشعث، والحلاق، واللباس، والطيب مجنة الضرورة والأصل الوفاء بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 195‏)‏، فلو وصل إلى مكة وأحصر عن عرفة طاف وسعى، ولا يحلق عند ابن القاسم حتى ييأس من عرفة، ويؤخر الحلاق إلى الأياس من العدو، وينحر ويحلق عند عبد الملك، وقال أشهب‏:‏ لا يحلق إلى يوم النحر، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ قال القاضي أبو الوليد‏:‏ إذا وقف وصد عن البيت يأتي بالمناسك كلها، وينتظر أياما، فإن أمكنه الوصول إلى البيت طاف، وإلا حل وانصرف، ولو تمكن من لقاء البيت وصد عن عرفة‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ أن يحل دون الطواف والسعي، ويؤخر الحلاق، فإن أيس وتضرر بالطول حلق‏.‏

المانع السادس‏:‏ المرض، في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا أحرم مكي بالحج من مكة أو من الحرم، أو أحرم المتعمد بالحج بعد الفراغ من عمرته من مكة فأحصر بمرض حتى فرغ الناس من الحج، فلا بد من الخروج إلى الحل فيلبي منه، ويعمل عمرة التحلل ويحج قابلا، ويهدي، والمحصر بمرض إذا فاته الحج لا يقطع التلبية حتى يدخل أوائل الحرم، ولا يحله إلى البيت وإن تطاول سنين، وإن تمادى مرضه إلى قابل فحج بإحرامه أجزأه عن حجه الإسلام، ولا دم عليه، وإذا كان مع المحصر بمرض هدي حبسه حتى يصح فينطلق به معه إلا أن يخاف عليه لطول المرض فيبعث به ينحر بمكة، وعليه هدي آخر إذا فاته الحج للفوات؛ لأن الأول قد تعين قبل الفوت، ولو لم يبعث به ما أجزأه عن هدي الفوت، وتحرير هذه الفتوى‏:‏ أن المرض ليس عذرا للتحلل إذا طرأ على الإحرام، بخلاف العدو عند مالك و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، وسوى ‏(‏ح‏)‏ محتجا بما في أبي داود، قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل‏)‏ وقياسا على العدو بجامع الضرورة، والجواب عن الأول‏:‏ أن راويه ضعيف، وبتقدير صحته فهو متروك الظاهر، فإنه لا يحل بنفس الكسر والعرج، وإن فاته الحج إجماعا، فإن أضمروا‏:‏ إذا أهدى، أضمرنا‏:‏ إذا اعتمر ويعضده‏:‏ ما في ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ أن رجلا من أهل البصرة انكسرت فخذه فبعثوا إلى مكة وبها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم والناس، فلم يأذن له أحد في التحلل‏.‏ فكان إجماعا‏.‏ وعن الثاني‏:‏ الفرق بأن المريض لا يستفيد بتحلله مفارقة ما حصره، فهو كمن أخطأ الطريق وخاف الفوات، بخلاف المحصور بالعدو، فإن فرض العدو قد أحاط به من جميع جهاته، فهذه الصورة اختلف فيها الشافعية، فمنهم من ألحق، ومنهم من فرق، قال سند‏:‏ ولم يحفظ عن مالك فيها نص، فيحتمل التحلل ليتفرغ للقتال، ويحتمل التسوية بالمريض، فلو شرط في إحرامه أنه يتحلل متى عرض له عارض من مرض، أو خطأ الطريق، أو خطأ العدد، أو ذهاب النفقة، قال مالك و‏(‏ح‏)‏‏:‏ شرطه باطل، وأثبته ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل لما يروي أنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي تبكي، فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قالت‏:‏ أريد الحج وأنا شاكية، فقال عليه السلام‏:‏ حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست‏)‏ لنا‏:‏ القياس على الصلاة، وإذا بقي على إحرامه إلى قابل، فروى ابن القاسم‏:‏ لا هدي عليه؛ لأنه أوقع جميع مناسكه في إحرامه، وروى عنه‏:‏ يهدي كتأخير بعض أفعال الحج عن وقته، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا طاف المفرد وسعى ثم خرج إلى الطائف فأحصر بعدو أو مرض أو بمكة قبل الخروج لم يجزئه الطواف والسعي الأولان، بل يأتنفهما المحصر بالمرض، وإذا أصابه أذى يحلق وينحر هدية أحب‏.‏

المانع السابع‏:‏ حبس السلطان‏.‏ وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا حبسه السلطان في دم لا يحله إلا البيت، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ من حبس في دم أو دين فهو كالمرض لا كالعدو، وفي إلحاقه بالعدو قولان للمتأخرين، قال سند‏:‏ من حبس بحق لا يحله إلا البيت؛ لأن المانع من جهته، أو حبس ظلما فهو كمن أحاط به العدو من جميع الجهات، وقد تقدم الكلام فيه، والظاهر‏:‏ أنه يتحلل، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ أما من فاته الوقوف بعرفة بخطأ الطريق، أو العدو أو خفاء الهلال، أو شغل أو بأي وجه غير العدو، فلا يحله إلا البيت فيتحلل بالعمرة، ويلزمه القضاء ودم الفوات‏.‏

المانع الثامن‏:‏ السفه، قال سند‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يحج السفيه إلا بإذن وليه، إن رأى وليه ذلك نظرا أذن، وإلا فلا، وإذا حلله وليه فلا قضاء عليه، وكذلك المرأة‏.‏

الرابع‏:‏ في السوابق

وهي ثلاثة، السابقة الأولى، النيابة في الحج، قال سند‏:‏ اتفق أرباب المذاهب أن الصحيح لا تجوز استنابته في فرض الحج، والمذهب‏:‏ كراهتها في التطوع، وإن وقعت صحت الإجازة، وحرمها ‏(‏ش‏)‏ قياسا على الفرض، وجوزها ‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل مطلقا، وأما الشيخ الضعيف‏:‏ فقال الأئمة‏:‏ إن كان ذا مال وجب عليه الاستئجار، واستحبه ابن حبيب، والمذهب‏:‏ أن حج النائب لا يسقط فرض المنيب، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يقع الحج تطوعا عن النائب وللمستنيب أجر النفقة وتسهيل الطريق، وهو قريب من قول مالك، وقال ابن حبيب‏:‏ يجزئ عن الكبير العاجز والمنيب الموصي، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ لا تجوز الاستنابة عند العجز، وروي الجواز، وخصصها ابن وهيب بالولد، وابن حبيب بالكبير العاجز الذي لم يحج، وحج الولد عن أبيه الميت وإن لم يوص، ونفذ أشهب الوصية بالحج من رأس المال إن كان صرورة، وقيل‏:‏ لا ينفذ، وقيل‏:‏ يحج عنه وإن لم يوص إن كان صرورة، وفي ‏(‏الصحاح‏)‏‏:‏ ‏(‏أن امرأة من خثعم أنت النبي عليه السلام فقالت‏:‏ إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة‏.‏ أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه‏)‏ وجوابه‏:‏ أن هذا لم يجب عليه الحج لما ذكرت من العجز فنقول بموجبه؛ لأنه ينتفع بالدعاء وبالنفقة، وتشبيهه بالدين من جهة حصول الثواب، والقياس يعضدنا؛ لأنه أفعال بدنية كالصلاة، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت‏)‏‏.‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 97‏)‏ ولم يقل‏:‏ إحجاج البيت، وإذا لم يجب الاحجاج، والأصل عدم دليل يدل على مشروعيته، فيكون فعله عبثا فيكره، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏)‏‏.‏ ‏(‏النجم‏:‏ 39‏)‏ والمعارضة بعمل المدينة، وإنما صححنا الإجارة؛ لأنه محل اجتهاد، فلا يقطع بالبطلان‏.‏

قاعدة‏:‏ الأفعال قسمان، منها ما يشتمل على مصلحة مع قطع النظر عن فاعله كرد الودائع، وقضاء الديون ونحوها فتصح فيها النيابة إجماعا؛ لأن المقصود انتفاع أهلها بها، وذلك حاصل بنفس الدفع، ولذلك لم يشترط فيها النيات، ومنها ما لا يتضمن مصلحة في نفسه، بل بالنظر إلى فاعله كالصلاة، فإن مصلحتها الخشوع والخضوع وإجلال الرب سبحانه وتعظيمه، وذلك إنما يحصل فيها من جهة فاعليها، فإذا فعلها غير الإنسان فاتت المصلحة التي طلبها الله تعالى منه، فلا توصف بكونها حينئذ مشروعة في حقه، فلا يجوز فيها النيابة إجماعا، ومصالح الحج تأديب النفس بمفارقة الأوطان، وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط وغيره ليذكر المعاد، والاندراج في الأكفان، وتعظيم شعائر الله تعالى في تلك البقاع، وإظهار الانقياد من العبد لما لم يعلم حقيقته كرمي الجمار، وهذه مصالح لا تحصل إلا للمباشر كالصلاة، فيظهر رجحان المذهب بهذه القاعدة، ومن حاول الفرق بين الحج والصلاة، لاحظ ما فيه من القربة المالية غالبا في الإنفاق في السفر، فأشبه العتق والصدقة عن الغير‏.‏

فروع اثنا عشر‏:‏ الأول، قال سند‏:‏ اتفق مالك والأئمة على الإرزاق في الحج، وأما الإجازة بأجرة معلومة‏:‏ فقال بها مالك و‏(‏ش‏)‏، ومنعه ‏(‏ح‏)‏ وابن حنبل، والأفعال ثلاثة أقسام‏:‏ ما يجوز فيه الإزراق والإجازة نحو بناء المساجد، وتفريق الصدقات، وما تمنع فيه الإجازة دون الإرزاق، نحو الفتيا، والقضاة، وما اختلف في جواز الإجازة فيه دون الإرزاق نحو‏:‏ الأذان والصلاة والحج، فإن قاسوا على صور المنع، فرقنا بأن العمل ثمة غير منضبط بخلافة ها هنا، وقسنا على صورة الجواز، ومنع ‏(‏ش‏)‏ الاستئجار بالنفقة للجهالة، وقسناها على نفقة النظير، وأجبناه بأنه منضبط عادة‏.‏ والمعارضة تقع في الحج ثلاثة اقتسام‏:‏

بأجره معلومة، وبالنفقة، وتسمى البلاغ، وعلى وجه الجهالة وهو أن لا يلزم نفسه شيئا، ولكن إن حج كان له كذا وكذا، وإلا فلا‏.‏

والثاني، في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من أخذ مالا يحج به عن ميت فصده عدو عن البيت، فإن أخذه على البلاغ رد ما فضل عن نفقته ذاهبا وراجعا، وإن كان أجيرا كان له من الأجرة بحساب مسيره إلى موضع صده، وكذلك من مات في الطريق، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا شيء له‏.‏ وإن أحصر صاحب البلاغ فمرض، فنفقته في مال الميت مدة مرضه، وإن أقام إلى قابل أجرأ عن الميت حجة ‏(‏ش‏)‏ بأن الإجارة مقابلة المقصود، لا الوسيلة، فإذا لم يأت بالمقصود فلا شيء له، كمن استؤجر على البناء أو الخياطة فهيأ الآلات ولم يخط، وجوابه‏:‏ أن أكثر المبذول ها هنا لقطع المسافة، فهي أعظم المقصود في أخذ العوض، ولذلك يكثر المبذول ويقل بكثرة المسافة وقلتها، بخلاف آلات الخياطة، وأما الخياطة والبناء إن وقعا على وجه الجعالة فمسلم أنه لا يستحق شيئا، وكذلك في صورة النزاع، وإلا فنحن نلزمه بالعمل ولا تسقط الأجرة، فنحن نمنع الحكم في الأصل، قال سند‏:‏ إذا صد في الجعالة‏:‏ فلا شيء له، وفي البلاغ له ما جرت العادة به مما لا بد منه، كالعسل والزيت واللحم المرة بعد المرة والوطاء واللحاف والثياب، ويرد ما فضل من ذلك، والفرق بين المستأجر لا ينفق راجعا وذي البلاغ‏:‏ أن رجوعه لم يتناوله العقد، وإذا أحصر بعد الإحرام وتحل‏:‏ فإن أوجبنا الهدي على قول أشهب فعلى المستأجر، وكل ما فعل من أعمال الحج واقع عن المستأجر، وقال بعض الشافعية‏:‏ عن المحصور، والدم عليه، والمستأجر على البلاغ إذا تحلل بعد الحصر وبقي بمكة حتى حج من قابل، أو بقي على إحرامه الذي دخل به إلى قابل فحج به، فلا شيء على المستأجر إن كانت الإجارة على العام الأول كما لو أكرى داره سنة فغصبت، ثم سلمها الغاصب في تلك السنة، وإن كانت على مطل الحج من غير تعيين سقط من نفقته من يوم إمكان التحلل مدة مكة، فإن سار بعد ذلك ليحج فله نفقه مسيره، ولا نفقة له في مقامه بها حتى يأتي من قابل الوقت الذي أحصر فيه، ويذهب من الوقت الذي أحصر فيه، ويذهب من الوقت قدر السير إلى مكة، فتكون له النفقة بعد ذلك، وأما الأجير بأجرة معلومة‏:‏ فله منها من الحصر إلى الفوت، أحرم أو لم يحرم، وأما المجاعل‏:‏ فليس له بعد الإحرام الرجوع للعبادة لا للعقد، وإن شرط عاما معينا ففات سقط العقد، وإلا فهو على عقده، وقال ابن حبيب في الأجير إذا مات بعد دخول مكة‏:‏ له جملة الأجرة، وهو ضعيف لبقاء بعض ما اقتضاه العقد، ولو كان الحج مضمونا لا معينا، مثل قوله‏:‏ من يأخذ كذا في حجه‏؟‏ ثم مات الآخذ‏.‏ ولم يحرم، قام وارثه مقامه كسائر الإجارات، فإن مات بعد الإحرام فللوارث أن يحرم إن لم تفت السنة، في السنة المعينة، وإن فاتت في غير المعينة، ويحرم من موضع شرط المستأجر أو من ميقاته، ولا يحتسب بما فعل مورثه، وقال ‏(‏ش‏)‏ في الجديد‏:‏ مثلنا، وفي القديم‏:‏ يبنى كبناء الولي على أفعال الصبي، والفرق‏:‏ أن الولي لم يجدد إحراما، وإنما ناب في بعض الأفعال‏.‏ وأما أجير البلاغ يمرض فله مدة مرضه نفقته الصحيح‏.‏

الثالث، في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من ضعف من كبر لا يحج أحدا عن نفسه صرورة كان أو غير صرورة، ومن مات صرورة ولم يوص بالحج وأراد أحد أن يتطوع عنه بذلك فليتطوع بغير هذا من صدقة أو غيرها، فإن أوصى بعمرة نفذت، قال سند‏:‏ الخلاف هنا إنما هو في الكراهة والجواز، فكما يكره عن الميت فهو عن الحي أشد، ويصح الحج عن الميت، وتنفذ الوصية بإحجاج مسلم حر بالغ لتنزل حجة منزلة حج الموصي، فإن أوصى بذلك لعبد أو صبي وهو صرورة قال ابن القاسم في ‏(‏الموازية‏)‏‏:‏ دفع ذلك لغيرهما، وقال ابن الجلاب‏:‏ إن أوصى - وهو صرورة - لا يحج عنه إلا بالغ حر إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يكن صرورة جاز إلا أن يمنع من ذلك، وقال في كتاب الوصايا من ‏(‏المدونة‏)‏‏:‏ تنفذ وصية العبد والصبي لاحتمال أن يكون إنما أراد نفعهما، وأما إن كان الأجير صرورة فأجاز إجارته مالك و‏(‏ح‏)‏ ومنعها ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، فإن وقع فلا يقع عن النائب، لما في أبي داود‏:‏ أنه عليه السلام سمع رجلا يقول‏:‏ لبيك عن شبرمة، قال‏:‏ من شبرمة‏؟‏ قال‏:‏ أخ لي، أو قريب لي، فقال‏:‏ حججت عن نفسك‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة، وجوابه‏:‏ أنه وقع عام الفتح حين فسخ النبي عليه السلام والناس حجهم إلى عمرة، فلما جاز الفسخ من قربة إلى قربة، جاز الفسخ من شخص إلى شخص، ويدل عليه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏حج عن نفسك‏)‏، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏ قال‏:‏ والخلاف في العمرة كالخلاف في الحج، فيما يجوز ويمتنع؛ لأنهما عبادة بدنية‏.‏

فائدة‏:‏ الصرورة لغة‏:‏ من لم يتزوج أو لم يحج، كأنه من الصر، ومنه‏:‏ الصرة لا نجماعه وعدم اتصاله بهذين المعنيين‏.‏

الرابع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا استؤجر على الحج فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت لم يجزه عن الميت، وعليه حجة أخرى عنه، كما استؤجر، قال ابن القاسم‏:‏ وكذلك لو قرن ونوى العمرة عن نفسه، وعليه دم القران، قال سند‏:‏ إن شرط عليه موضع الإحرام صح وفاقا، وإلا فالمذهب صحته من ميقات الميت، وأنه إذا اعتمر وقلنا‏:‏ تجزئه فلا يرجع عليه بشيء من الأجرة، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يرجع بقدر ما ترك من الميقاة إلى مكة، لنا أن عمله صحيح، وإنما وقع فيه خلل جبره بالدم، فأشبه ما لو رجع إلى الميقاة بعد العمرة، وقد سلمه الشافعي، وقاله‏:‏ أبو حنيفة؛ لأن المقصود إنما هو الحج، وإن قلنا‏:‏ لا يجزئه ولو رجع إلى الميقاة فأحرم عن الميت‏:‏ قال ابن المواز‏:‏ يجزئه إن كان ميقاة الميت، ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه لما اعتمر لنفسه‏:‏ كان سفره لنفسه فلا يجزئه إلا العود، وكما أنه إذا فات الحج يرد جميع الأجرة، وقد قال ابن القاسم بعد هذا‏:‏ إذا شرطوا عليه أن لا يقدم عمرة فقدمها‏:‏ يرد عليهم ما قبض منهم، ولم يقل‏:‏ يسقط ما بعد من الميقاة، وإذا كانت الإجارة على عام بعينه، وقلنا‏:‏ لا يجزئه رد الأجرة مع قولنا‏:‏ إنه لو رجع إلى الميقاة أجزأه ولو مات عنده، كمن استؤجر على متاع فغصبه ببعض الطريق ضمنه ولا كراء له؛ لأن الغيب كشف أنه إنما حمله لنفسه ولو رد المتاع وأتم الحموله‏:‏ كانت له جملة الأجرة، ولو كانت الإجارة مضمونة كان عليه الوفاء بها، فلو تمنع وجعل جميع ذلك عن الميت‏:‏ قال مالك يجزئه، فلو شرطوا عليه ألا يقدم عمرة‏:‏ قال ابن القاسم و‏(‏ح‏)‏‏:‏ عليه أن يوفيهم، ثم رجع إلى قول مالك لأنه رآه خيرا، وفي ‏(‏الجلاب‏)‏ عن ابن القاسم‏:‏ عدم الإجزاء، ولم يفصل بين وقوع العمرة عنه ولا عن الميت، وحكي الإجزاء عن ابن الحكم ولم يفصل، قال سند‏:‏ وإذا قلنا بالإجزاء فعليه الهدي كدم الصيد والفدية، ولو شرط عليه ميقاة فأحرم من غيره‏:‏ فظاهر المذهب‏:‏ لا يجزئه ويرد المال في الحج المعين إن فات، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا يرد وإن أحرم من الأقرب؛ لأن المقصود هو الحج‏.‏ لنا‏:‏ القياس على ما إذا استؤجر لسنة معينة فحج في غيرها، ولأنه خلاف المعقود عليه، ولو أطلق العقد، ففي تعيين ميقاة الميت قولان، وأما إذا قرن فلا يجزئ عند ابن القاسم و‏(‏ش‏)‏؛ لأنه أحرم واحد، لا يمكن أن يكون عن اثنين، وتقع عن الأجير، ويكون الحج ها هنا تبعا للعمرة لتعذر وقوعه عن المستأجر، فإن كانت السنة معينة لا بد أن ينفق على سنة أخرى؛ لأنه دين في دين، أو غير معينة فالقياس أن عليه الوفاء بها، وقيل‏:‏ إن عرف ذلك من قوله، وكذلك إن كتم ذلك ثم فطن له فسخت الإجارة؛ لأنه لا يوثق به في السنة الثانية، فلو أذنوا له في القران بعمرة لنفسه لم يلزمه شيء، والظاهر أن العمل يبطل لوقوع التشريك في الطواف الواحد، وقال أشهب‏:‏ إذا حج عن رجل واعتمر عن آخر وقد أمره بذلك‏:‏ أن دم القران على المعتمر وحج حجه، وإذا جازت الإجارة عليهما مفردتين جازت مجتمعتين، فلو اشترط القران فأفرد، فالمذهب لا يجزئه لإتيانه بغير المعقود عليه وكان سفره له، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يجزئه ويرد من الإجارة بقسط العمرة، فلو استؤجر ليقرن فتمتع، لم يجزئه ولا يرد عند ‏(‏ش‏)‏ هاهنا شيئا، ولو استؤجر ليتمتع فقرن لم يجزئه، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يجزئه؛ لأن عليه الإحرام من مكة، فأحرم من الميقاة، فلو استؤجر على أن يتمتع فأفرد لم يجزئه، ولا يجزئه أن يعتمر بعد الحج؛ لأن الشرط لا يتناوله، ولا ينظر إلى فضل الإفراد عندنا؛ لأنه لو استؤجر على العمرة فحج لم يجزئه، وإنما النظر إلى مخالفة العقد‏.‏

الخامس‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من حج عن ميت أجزأته النية دون‏:‏ لبيك عن فلان‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ولو ترك ما يوجب الدم مع بقاء الإجزاء أن لو كانت الحجة عن نفسه أجزأت عن الميت، وكل ما لم يتعمد من ذلك أو فعل لضرورة، أو أغمي عليه أيام منى حتى رمي عنه غيره، أو أصابه أذى فالفدية والهدي في مال الميت إن كان على البلاغ، وما كان من ذلك بتعمده ففي ماله، وإن كانت إجارة، فالعمد وغيره في ماله، قال سند‏:‏ الاقتصار على النية يدل على قبول قوله، وفيه خلاف بين الأصحاب، فعلى القول بالأشهر يعلن تلبيته عنه، ومقصود ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إنما هو انعقاد الحج بمجرد النية، فإذا قبض الأجرة فهو أمين حتى تثبت خيانته، وإن لم يقبض فلا شيء عليه حتى تثبت التوفية، ولا يصدق إن اتهم إلا بالبينة، فلو شرط عليه دم التمتع ونحوه لم يجزئ؛ لأنه بيع مجهول ضم إلى الإجارة‏.‏

السادس، قال ابن القاسم في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من أخذ مالا على البلاغ فسقط منه رجع من موضع السقوط‏:‏ ونفقته في رجوعه على مستأجره، فإن تمادى فهو مقطوع ولا شيء له في إذهابه إلا أن يسقط بعد إحرامه فليمض لضرورة الإحرام، ونفقته ذاهبا وراجعا على الذي دفع إليه المال، ولو أخذه على الإجارة فسقط ضمن الحج، أحرم أو لم يحرم، قال سند‏:‏ القياس في البلاغ - إذا لم يكن شرطا - أن يتمادى؛ لأن الأجرة لم تتعين، والعقد لازم، ورأى ابن القاسم أن المال لما تعين صار محل العقد، كما لو استؤجر لغرض معين فتلف، وقال ابن حبيب‏:‏ لا نفقه له في رجوعه لانفساخ العقد بالسقوط، وابن القاسم يرى أن المقطوع من المسافة استقر في العقد ذهابا ورجوعا، فإن كان الميت أوصى بأن يحج عنه ولم يعين لذلك شيئا كان ذلك في تمام الثلث‏.‏ إن رضي الورثة كلهم بهذه الإجارة، وهو قول ابن القاسم، فلو فرضوا ذلك لأحدهم ففعله بغير علمهم، أو فعله وصي‏:‏ قال ابن القاسم وغيره‏:‏ الغرامة على الوصي دون مال الميت؛ لأنه غرر بالعدول عن الإجارة المعلومة إلى البلاغ، وقال ابن حبيب‏:‏ في مال الميت؛ لأنه فرض إليه النظر في المصلحة، وقد رآها كذلك، فإن لم يبق للميت ثلث فذلك على العاقد من وصي أو غيره، وإذا سقطت النفقة ورجع‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ سقطت الوصية وإن كان في الثلث فضل، وقال أشهب‏:‏ عليهم أن يحجوا عنه من بقية الثلث؛ لأنه لم يسم، كالوصية بإعتاق رقبة تشتري فتهلك قبل العتق، والفرق‏:‏ أنه لا يجب عتق العبد بشرائه كما يجب حج الأجير بالعقد، فلو لم يسقط لكن نفدت في الكلف لا يرجع، ونفقته عليهم، والفرق‏:‏ أن المال محل العقد، فإذا سقط فكأنه لم يسلم العقود عليه؛ لأنه كان معه أمانة، وهذا قد سلمه، والقول قوله في السقوط مع يمينه، سواء ظهر ذلك عند الضياع أو بعد الرجوع‏.‏

السابع‏:‏ قال ابن القاسم في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا أوصى بأن يحج بأربعين، فدفعوها لرجل على البلاغ، فأفضل منها عشرين ردها عليهم، كما لو قال‏:‏ اشتروا عبد فلان بمائة فأعتقوه، فاشتروه بأقل فالبقية ميراث‏.‏ وإن قال‏:‏ أعطوا فلانا أربعين ليحج بها عني فاستأجروه بثلاثين فالعشر ميراث، قال سند‏:‏ وإن كان الموصى له وارثا لا يزاد على النفقة والكراء شيئا، قاله في كتاب الوصية، وإن كان غير وارث فعلم ورضي بدونه فقد أسقط حقه، وإن لم يعلم‏:‏ فرأى ابن القاسم أن المقصود الحج، وقال ابن المواز‏:‏ يدفع الجميع له في الحج؛ لأنه وصية للغير، وإذا قلنا‏:‏ يعطى الزائد فقال‏:‏ أحجوا غيري، وقال‏:‏ أعطوني الزائد‏:‏ لم يوافق؛ لأنه أوصى له بشرط الحج، فإن الميت قصد التوسعة في الحج، وإن لم يكن صرورة‏:‏ قال ابن القاسم في الوصايا‏:‏ يرجع ميراثا إن امتنع الموصى له، وقال غيره‏:‏ لا يرجع تحصيلا للمقصود من الحج، فإن قال‏:‏ أحجوا عني بهذا المال، فعل فيه ما يفعل في الوصية المطلقة، فإن الإطلاق تارة يكون في الأجرة، وتارة في الأجير، وتارة فيهما، وتارة يكونان معينين، فهي أربعة أقسام، فإذا أطلقت الأجرة وقال‏:‏ أحجوا عني‏:‏ أخرجت من ثلثه أجرة حجه موضعه‏.‏ قاله أشهب، كالحالف يحنث إن لم تكن له نية، يمشي من موضع الحلف، وإن لم يحمل الثلث فمن موضع يحمله، قال مالك‏:‏ إن كان يسيرا مثل الدينار رد إلى الورثة، وإن سمي موضعا أحجوا منه إن حمل الثلث وإلا قال ابن القاسم‏:‏ يرجع ميراثا، وفرق بين تعيين الموضع وإطلاقه لارتباط الوصية بالموضع، كما لو استؤجر ليحرم من موضع يعينه فأحرم من غيره فلا شيء له، وقال أشهب بتنفيذها إلى ثلثه إن وجد من يحج بها عنه، وقال ابن المواز‏:‏ إن كان صرورة فقول أشهب أحسن، وإلا فقول ابن القاسم، ولو قال‏:‏ أحجوا عني بثلثي، حجة واحدة فأحجوا بدونه، فالباقي لهم عند ابن القاسم، وعند أشهب‏:‏ يخرجونه في حجة أخرى، وفعلهم للأقل جائز، ولا يجزئهم عند سحنون‏.‏ ويضمنون المال للمخالفة‏.‏

الثامن‏:‏ قال سند‏:‏ يجب اتصال العمل بالعقد في الإجارة المعينة كسائر الإجارات، وإن كانت بالحجاز فالأحسن أن تكون في الأشهر الحرم ليشرع فيها عقيب العقد، ويجوز التأخير في المضمونة والسنين‏.‏

التاسع‏:‏ قال‏:‏ من عليه مشي إلى مكة فأوصى به، قال مالك‏:‏ لا يمشي عنه ويهدي هديين للحج وصفته بالمشي، فإن لم يجد فهدي واحد، ولا يمشي أحد عن أحد، فإن وعده ابنه بذلك بطل وعده، فمن الأصحاب من حمل هذا من مالك على المنع من الاستنابة في الحج، والأحسن‏:‏ أن يحمل على أنه لا يجب الوفاء بذلك؛ لأنه لو كان ممنوعا لما خص الولد عليه على أحد قوليه‏.‏ وفي الأول، ألحقه بالصوم والصلاة، مع أن بعض الناس قد جوزه في الصوم والصلاة لما في البخاري عن ابن عمر ‏(‏

أن امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء قال‏:‏ فصلي عنها‏)‏ وفي مسلم‏:‏ ‏(‏

أن امرأة سألته عليه السلام عن أمها أنها ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها‏؟‏ قال‏:‏ صومي‏.‏ والحج أبين، وإن عين الميت لذلك مالا، لا يختلف قول مالك في تنفيذه، فإن لم يوص بالمشي وقال‏:‏ ما لزمني فافعلوه، فعلى قول مالك‏:‏ يلزمهم الهدي لتعذر أداء الواجب بالموت، وعند سحنون‏:‏ لا يفعلون شيئا؛ لأنه لا يلزمه أن يحج من ماله، ولا أن يهدي، لتعلق الوجوب بالبدن، وإن قال‏:‏ علي حجتان‏:‏ فرض ونذر، فاستأجروا اثنين لعام واحد، صح بخلاف من حج لفرضه ونذره في عام واحد لتعذر الإحرام، وقال بعض الشافعية‏:‏ لا يجوز؛ لأنه لا يؤدي النذر إلا بعد الفرض‏.‏ العاشر‏:‏ قال‏:‏ لو أحرم عن أبيه وأمه لم ينعقد، وقاله ‏(‏ش‏)‏ وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ ينعقد، ويجعله بعد ذلك عن أيهما شاء، وسلم عدم الانعقاد في الأجنبيين، ويقع عن نفسه؛ لأن المقصود ثم إنما هو البر، وهو جهة واحدة بخلاف الأجنبيين فلما أمكن أن يقال في الأجنبيين‏:‏ المقصود جهة واحدة، وهي الخروج عن حقهما، فلو أحرم عن أحدهما من غير تعيين لم تقع إلا عن نفسه، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ يصرفه إلى من شاء منهما‏.‏ لنا‏:‏ أنه إحرام من غير تعيين، فلا يصح تعيينه بعد ذلك، كما لو أحرم عمن لعله يؤاجره ويخالف إحرامه عن نفسه، ثم يعين بعد ذلك بحج أو عمرة؛ لأنه يعين نفسه، وأحد النسكين شأن أن يدخل في الآخر‏.‏

الحادي عشر‏:‏ قال‏:‏ إذا أوصى أن يحج عنه بمال، فتبرع عنه بغير مال، فعلى أصل ابن القاسم‏:‏ يعود ميراثا، وعلى قول أشهب‏:‏ يستأجر به‏.‏ كما لو استأجر عنه بدون المال‏.‏

الثاني عشر‏:‏ إذا أحرم الأجير عن الميت ثم صرفه إلى نفسه لم يجزئ عنهما، ولا يستحق الأجرة، وقال الشافعي‏:‏ يقع عن الميت، واختلفوا في استحقاق الأجرة، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ في افتقار العقد إلى تعين الزمان الذي يحج فيه، قولان للمتأخرين، واختلفوا في تعلق الفعل بنفس الأجير أو بذمته، وعليه يخرج الخلاف إذا امتنع المعين، وإذا صد الأجير فأراد الإقامة على إحرامه إلى عام ثان، أو تحلل وأراد البقاء على إجارته ليحج في العام الثاني‏:‏ فللمتأخرين في المسألتين قولان، وفي ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ لا يجوز للأجير استئجار غيره إلا بأذن المؤجر‏.‏ ‏(‏السابقة الثانية‏)‏‏:‏ الميقات الزماني، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هو شوال وذو القعدة وذو الحجة، وفي الاقتصار على العشر الأول منه لكونه الناسك تكمل فيه، أو اعتبار جميعه لظاهر النص، أو إلى آخر أيام التشريق، ثلاث روايات، وفائدة الخلاف‏:‏ تعلق الدم بتأخير طواف الإفاضة‏.‏ وأما العمرة‏:‏ فجميع السنة وقت لها، لكن تكره في أيام منى لمن حج، ويكره تكرارها في السنة الواحدة، وقال مطرف‏:‏ لا تكره، ومراعاة هذه المقياة أولى، وقيل‏:‏ واجبة، ومن أحرم قبله انعقد وصح، وقيل‏:‏ لا ينعقد، وقاله ‏(‏ش‏)‏، والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الحج أشهر معلومات‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 197‏)‏ وأقل الجمع ثلاثة، وفي ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يستحب إهلال أهل مكة إذا أهل ذو الحجة، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يستحب يوم التروية، وفي ‏(‏الموطأ‏)‏ أن ابن جريج سأل ابن عمر رضي الله عنهم فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن‏:‏ رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها‏.‏‏.‏‏.‏ وساق الحديث إلى أن قال‏:‏ ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا هلال ذي الحجة، ولم تهل أنت حتى يأتي يوم التروية‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏وأما الإهلال‏:‏ فإني لم أر النبي عليه السلام يهل حتى يبعث راحلته‏)‏ ولأنه يعقبه السعي في المناسك‏.‏ لنا‏:‏ ما في ‏(‏الموطأ‏)‏‏.‏ ‏(‏أن عمر - رضي الله عنه – قال‏:‏ ‏(‏يأهل مكة ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال‏)‏، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعا ولذلك قيل لابن عمر‏:‏ لم أر أحدا من أصحابك يفعل ذلك‏.‏

‏(‏قواعد‏)‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الحج أشهر معلومات‏)‏ مبتدأ وخبر‏.‏ فيجب أن يرجعا لعين واحدة، والأشهر زمان، والحج ليس بزمان، فيتعين حذف أحد مضافين تصحيحا للكلام، تقديره‏:‏ زمان الحج أشهر معلومات، أو الحج ذو أشهر معلومات، فيتحد المبتدأ والخبر في الزمن أو في الأفعال، ثم المبتدأ يجب أن يكون محصورا في الخبر، فيجب انحصار الحج في الأشهر، فيكون الإحرام قبلها كالإحرام بالظهر قبل الزوال غير مشروع، وهو قول الشافعي لا ينعقد به الحج، بل يكون معصية، جوابه‏:‏ أن الإحرام شرط لأنه نية الحج المميز له، والمميز يجب أن يكون خارجا عن حقيقة المميز فيكون شرطا فيجوز تقديمه؛ لأن الشروط يجب تقديمها على أوقات المشروطات، كالطهارات، وستر العورات مع الصلوات، ويكون المحصور في الأشهر إنما هو المشروط، وليس بين هذا وبين قول الأصحاب‏:‏ إنه ركن، منافاة لأن معنى قولهم‏:‏ أنه ركن، أنه واجب لا يجبر بالدم، وهذا ما ينافي ما ذكرته، وليس إصطلاحهم في الركن أنه جزء حتى يلزم التنافي، بل الرمي عندهم جزء وليس بركن، أو نقول‏:‏ هو ركن، وظاهر النص يقتضي حصر ذات الحج في الأشهر، ويلزم من حصر كل ذات في زمان أو مكان حصر صفاتها معها، لاستحالة استقلال الصفة بنفسها، وصفات الحج‏:‏ الإجزاء والكمال، فيكون المحصور في الأشهر، هو الحج الكامل، ونحن نقول‏:‏ إن الإحرام فيها أفضل، فلم نخالف النص، ويؤكد ذلك‏:‏ أن التحديد وقع في المقياة المكاني، والإجماع على جواز التقديم عليه، وإنما الخلاف في الكراهة، ويوضح ذلك أيضا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 189‏)‏ وهو عام من جملة الأهلة فتكون ميقاتا للحج، وهذا التعليل الثاني أنسب للمذهب من جهة أن مالكا جوز في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ تقديم طواف الحج وسعيه في مسألتين قبل أشهر الحج‏:‏ القارن يفعلهما قبل أشهر الحج ويجزئانه لحجة قرانه، ومن فاته الحج وبقي على إحرامه إلى قابل يفعلهما لحج قابل قبل أشهر الحج‏.‏ سؤال‏:‏ ما الفرق بين الميقاتين مع أن مراعاة المكان أولى لشرفه بقرب البيت‏؟‏ جوابه‏:‏ أنه عليه السلام قال في المكاني‏:‏ ‏(‏

هن لهن ولمن أتى عليهن‏)‏ يريد الحج أو العمرة، فبين أن هذه المواقيت محصورة في الناسكين، ولم يحصر الناسكين فيها فجاز التقديم عليها، والمقياة الزماني على العكس، فظهر الفرق‏.‏

السابقة الثالثة‏:‏ الميقاة المكاني، وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هو ذو الحليفة، للمدينة، والجحفة، للشام ومصر، ويلملم، لليمن، وقرن، لنجد، وذات عرق، للعراق، وهو معتبر لأهل مكة في الحج لا في العمرة ولا في القران، وقيل‏:‏ يعتبر في القران، ويعتبر الآفاقي مطلقا، فإن جاوزه ضررة ففي إيجاب الدم عليه - وإن لم يرد حجا ولا عمرة - خلاف مبني على وجوب الحج على الفور أو التراخي والعمرة كالحج في المقياة في حق المقيم، والآفاقي عليه الخروج إلى طرف الحل، فإن لم يفعل حتى طاف وسعى لم يعتد بعمرته؛ لأنه لم يجمع بين الحل والحرام، والحاج جامع بينهما بسبب الوقوف بعرفة، والأفضل للمعتمر الإحرام من الجعرانة أو التنعيم، وفي ‏(‏الجلاب‏)‏‏:‏ لا بأس بإحرام المكي بالقران من مكة، ومنعه ابن القاسم اعتبارا بالعمرة، والأصل فيه‏:‏ ما في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏

وقت النبي عليه السلام لأهل المدينة‏:‏ ذا الحليفة، ولأهل الشام‏:‏ الجحفة، ولأهل نجد‏:‏ قرن المنازل، ولأهل اليمن‏:‏ يلملم، قال‏:‏ هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة‏.‏ فمن كان دونهن‏:‏ فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها‏.‏

زاد مسلم‏:‏ ويهل أهل العراق من ذات عرق‏)‏ وهذا وإن كان بلفظ الخبر، فمعناه‏:‏ الأمر، لاستحالة الخلف في خبر المعصوم‏.‏ والأمر للوجوب، فلا تجوز مجاوزة المقياة لغير عذر‏.‏

فائدة‏:‏ يروى أن الحجر الأسود في أول أمره كان له نور يصل آخره إلى هذه الحدود، فلذلك منع الشرع من مجاوزتها لمن أراد الحج تعظيما لتلك الآثار‏.‏

قال سند‏:‏ ويستحب لمن جاوز ميقاته لا يريد الحج‏.‏ ثم أراده‏:‏ أن يرجع إليه، وذو الحليفة، جميع الوادي، والمستحب‏:‏ المسجد، ولمالك، في مجاوزة المريض ذا الحليفة إلى الجحفة قولان، ومن كان منزله دون الميقات فسافر إلى ورائه، ثم رجع يريد الدخول مكة، فله الإحرام من الميقات، ومن منزله، كما يؤخر المصري من ذي الحليفة إلى الججفة ولا يؤخره إلى مسكنه، إن كان بمكة؛ لأنه لا يدخل إلا بإحرام، ويتعين عليه الميقات‏.‏

وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ إهلال أهل العراق من ‏(‏العقيق‏)‏ لقول ابن عباس‏:‏ وقت عليه السلام لأهل المشرق‏:‏ العقيق وجوابه‏:‏ إجماع الناس على أنهم إذا جاوزوه إلى ذات عرق لا دم عليهم، فلو كان ميقاتا لوجب الدم، وإن كان منزله بين ميقاتين فميقاته منزله، قاله مالك؛ لأن المواقيت لأهلها ولمن مر عليها، وهذا ليس منهما فلا يؤمر، لكن منزله حذو ميقات، ومن مر على غير ميقاة اعتبر محاذاته للميقاة، كما أنه لما لم يبلغ عمر - رضي الله عنه - الحديث في ذات عرق جعلها ميقاتا بالاجتهاد لمحاذاتها ‏(‏قرن‏)‏‏.‏ وقاله الأئمة، ومن أتى في البحر إلى ‏(‏جدة‏)‏ من مصر ونحوها‏:‏ قال مالك‏:‏ يحرم إذا حاذى الجحفة، قال‏:‏ وهذا إذا سافر في بحر ‏(‏القلزوم‏)‏ لأنه يأتي ساحل الجحفة، ثم يخلفه، ولم يكن السفر من ‏(‏عيذاب‏)‏ معروفا حينئذ؛ لأنها كانت أرض مجوس، فمن سافر في البحر منها فعلى حسب خروجه للبر، إلا أن يخرج أبعد من ميقاة أهل الشام أو أهل اليمن، ولا يلزمه الإحرام في البحر متحريا الجحفة لما فيه من التغرير برد الريح فيبقى عمره محرما حتى يتيسر السفر السالم، وهذا حرج عظيم، ولا يختلف في دفع الحرج بترك الإحرام إلى البر، وإذا ثبت الجواز فلا يجب دم لعدم الدليل عليه، وإنما أوجبناه في بحر القلزوم لتمكنه من البر والإحرام من الجحفة، وهل يحرم إذا وصل إلى ‏(‏جدة‏)‏ لانتقاء الضرورة، أو إذا سار منها‏؟‏ وهو الظاهر؛ لأن سنة الإحرام عند ابتداء السير‏.‏

فروع سبعة‏:‏ الأول‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يستحب لأهل مكة ولمن دخلها بعمرة‏:‏ أن يحرم بالحج من المسجد الحرام، فإن كان من المعتمر الآفاقي سعة‏:‏ فالمستحب‏:‏ خروجه لميقاته، والأفضل لأهل الشام ومصر والمغرب‏:‏ التأخير لذي الحليفة؛ لأنه ميقاته عليه السلام وهو طريقهم، فإن مروا من العراق، فمن ذات عرق، وكذلك سائر الآفاق إذا مروا بغير مواقيتهم أحرموا منه إلا ذا الحليفة كما تقدم، قال سند‏:‏ قد أحرمت عائشة - رضي الله عنها - بالحج من مكة، وروى أشهب‏:‏ يحرم من جوف المسجد لا من بابه، بخلاف مسجد ذي الحليفة يحرم من بابه؛ لأن التلبية لا يكره إظهارها في المسجد الحرام؛ لأنه موضع شعار الحج، وروى ابن حبيب‏:‏ من باب المسجد؛ لأن المساجد لم توضع إلا للصلاة، ومن أحرم من منزله فالإبعاد أفضل له‏.‏

الثاني‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من جاوز الميقات يريد الإحرام جاهلا رجع فأحرم منه، ولا دم عليه، فإن خاف فوات الحج، أحرم من موضعه وتمادى وعليه دم؛ لأن محظورات الحج تستباح بالضرورة، ويلزم الدم كاللباس والطيب، ولو أحرم بعد مجاوزة الميقات وليس مراهقا لم يرجع وعليه دم، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ يرجع كالمكي إذا أحرم بعمرة من مكة ثم رجع إلى الحل، والفرق‏:‏ إن الحل شرط في الإحرام بخلاف الميقات، ولذلك فإن طاف الحاج لا يرجع وفاقا، قال سند‏:‏ فلو رجع بعد إحرامه لا يسقط الدم عنه عندنا وعند ابن حنبل، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ يسقط قياسا على ما إذا أحرم من الميقات ابتداء‏.‏ لنا‏:‏ ‏(‏إنه عليه السلام أحرم من الميقات وقال‏:‏ خذوا عني مناسككم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏من ترك نسكا فعليه دم‏)‏ وقد ترك نسكا فلا يبرئه من الدم إلا إراقته كسائر الواجبات، فلو أراد رفض إحرامه وابتدأه من الميقات لم يرتفض عند مالك والأئمة‏.‏

والمذهب‏:‏ أن هذه المواقيت تحديد لظاهر الحديث، وقال ابن حبيب‏:‏ تقريب، فإذا أحرم قريبا منه فلا دم عليه‏.‏

الثالث‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ من أهل من ميقاته بعمرة وأردف الحج بمكة أو قبلها فلا دم عليه؛ لأنه لم يترك الإحرام من الميقات، ومن جاوز ميقاته لا يريد إحراما ثم أراده، أحرم من موضعه ولا دم عليه، وقاله الأئمة لما في ‏(‏الموطأ‏)‏ أنه عليه السلام تجاوز ميقاته وأحرم بعمرة من ‏(‏الجعرانة‏)‏ ومن تعدى الميقاة ضرورة، ثم أحرم لزمه الدم، ومن تعدى الميقات فأحرم بالحج ثم فاته فلا دم عليه لترك الميقات؛ لأنه يقضي الحج، وإن أفسده بجماع فعليه دم الميقات لوجوب التمادي، قال سند‏:‏ وقال أشهب‏:‏ لا يسقط الدم بالفوات؛ لأن انقلاب الحج إلى العمرة كانقلاب العمرة إلى الحج إذا جاوز الميقات يريد العمرة ثم أحرم بها ثم أردف الحج فإنه لا يسقط عنه الدم، ورأى ابن القاسم أن الدم المتعلق ببعض الإحرام فرع إتمامه؛ لأنه لو فعله قبل ذلك لم يجزه‏.‏

الرابع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ دم تعدي الميقات يجزئ فيه الصوم إن تعذر، بخلاف الإطعام؛ لأنه لترك نسك، كترك المبيت ودم القران، وهو مرتب كدم التمتع بخلاف دم المحظورات على التخير‏.‏

الخامس‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ إذا أحرم من خارج الحرم مكي، أو متمتع فلا دم عليه؛ لأنه لم يجاوز الميقات إلا محرما، فإن مضى إلى عرفات ولم يدخل الحرم - وهو مراهق - فلا دم عليه، فإن أحرم المكي بالحج من الحل أو التنعيم، أو غير المكي فعليه أن يطوف ويسعى قبل الوقوف فإن لم يكن مراهقا، بخلاف من أحرم بالحج من الحرم، ومن دخل مكة غير محرم متعمدا أو جاهلا أساء ولا شيء عليه، قال سند‏:‏ إن كان يريد النسك وجب الإحرام من الميقات، وإن لم يرد وخاف ضررا شديدا مثل دخوله لقتال البغاة، أو يخاف من سلطانها، فلا يكره له دخولها حلالا‏.‏ في ظاهر المذهب لجوازه مع عذر التكرار، فأولى الخوف، وقاله ‏(‏ش‏)‏، ولدخوله عليه السلام عام الفتح حلالا‏.‏ سؤال، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏

مكة حرام، ولا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار يقتضي بطلان ما ذكرتموه‏.‏

جوابه‏:‏ إنه عليه السلام إن كان آمنا فذلك خاص به، وإن كان خائفا فالإشارة إلى صفته، أي أحلت لمن كان بصفتي، ويدل على التخصيص دخول الحطابين ونحوهم‏.‏

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ يحرم على غير المترددين دخولها حلالا وإن لم يرد نسكا، وقيل‏:‏ يكره، وقال أبو مصعب‏:‏ يباح، وجوز ‏(‏ح‏)‏ لمن كان دون الميقاة الدخول بغير إحرام، ومنع من قبل الميقاة، وجعل الحرمة للمقياة، وهو باطل؛ لأن حرمة المقياة لحرمة الحرم، والإحرام تحية مشروعة لبقعة مباركة فلا بد منها، قال سند‏:‏ وإذا أوجبنا الدم فهو لمجاوزة الميقاة عند مالك، ولدخول مكة حلالا عند محمد، وفائدة الخلاف فيما إذا تجاوزه ثم أحرم قبل مكة، وأما الداخل في الحطابين والصيادين والفكاهين ممن يشق عليهم تكرار الإحرام فيدخلونها بغير إحرام، وألحق بهم سحنون من دخل بعمرة فحل منها ثم خرج ينوي الرجوع للحج بجامع التكرار، وإذا قلنا‏:‏ لا دم على داخل مكة غير محرم فأراد الحج خرج لميقاته‏.‏

فإن أحرم من مكة فلا دم عليه؛ لأن له حكم أهل مكة‏.‏

السادس‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يجوز للسيد إدخال رقيقه مكة بغير إحرام، وإن أذن السيد في الإحرام بعد ذلك فلا دم وقاله ‏(‏ش‏)‏؛ لأن حق السيد في الملك أسقط الحج فأولى ما يترتب عليه، ولو أسلم نصراني، أو أعتق عبد، أو بلغ صبي بعد خول مكة فأحرموا حينئذ فلا دم للميقات، وقال ‏(‏ح‏)‏، وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏:‏ على الكافر الذي أسلم الدم، لنا‏:‏ أنه قام به مانع الحج فأشبه المجنون‏.‏

السابع‏:‏ في ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يكره الإحرام قبل الميقات، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ الأفضل أن يحرم من بلده؛ لأن عمر وعليا - رضي الله عنهما - قالا في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 196‏)‏ أن تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك‏.‏ وفي أبي داود قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏

قال من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة‏)‏ لنا‏:‏ أنه عليه السلام لم يحرم إلا من الميقات، وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ وقياسا على ميقات الزمان، أو لأنه خلاف النص في تحديد المواقيت، وما رووه أمكن حمله على النذر جمعا بين الأدلة‏.‏

الخامس‏:‏ في المقاصد‏.‏

وفي ‏(‏الجواهر‏)‏‏:‏ هي ثلاثة أقسام‏:‏ واجبات أركان يأثم بتركها، ولا يجبرها الدم، وهي أربعة‏:‏ الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي، زاد عبد الملك‏:‏ جمرة العقبة، وواجبات ليست بأركان، وهي ما يوجب تركه الدم، كالتلبية، والميقاة، وطواف القدوم لغير المراهق، والجمار أو بعضها، والنزول بمزدلفة ونحوها، ومسنونات مستحبة لا يأثم بتركها ولا توجب دما، كالغسل للإحرام أو لغيره، والرمل في الطواف أو بطن المسيل بين الصفا والمروة، واستلام الركن، وترك الصلاة قبل الوقوف بعرفة، والحلاق بمنى يوم النحر، وطواف الوداع، والمبيت بمنى ليلة عرفة، والمبيت بمزدلفة، ثم الدفع منها، والوقوف مع الإمام، وعند الجمرتين للدعاء‏.‏

والأصل في هذه المقاصد‏:‏ ما في مسلم عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ مكث عليه السلام تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس‏:‏

محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع‏؟‏ فقال‏:‏ اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصوي حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله عليه السلام شيئا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، قال جابر‏:‏ لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشي أربعا، ثم نفذ إلى المقام فقرأ‏:‏ ‏(‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 125‏)‏ فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول‏:‏ ولا أعرف ذكره إلا عن النبي عليه السلام كان يقرأ في الركعتين‏:‏ ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏‏.‏ ‏(‏الإخلاص‏:‏ 1‏)‏ و‏(‏قل يا أيها الكافرون‏)‏‏.‏ ‏(‏الكافرون‏:‏ 1‏)‏ ثم رجع إلى الركن فاستمله، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ‏:‏ ‏(‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 158‏)‏ أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليها حتى رأى البيت، فاستقبل البيت فوحد الله وكبره، وقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا‏:‏ ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال‏:‏ لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن جعشم فقال‏:‏ يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال‏:‏ دخلت العمرة في الحج مرتين لأبد أبد الأبد، وقدم علي - رضي الله عنه - من اليمن ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة - رضي الله عنها - ممن حل ولبست ثيابا صبيغا و اكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت‏:‏ أبي أمرني بهذا، قال‏:‏ فكان علي يقول بالعراق‏:‏ فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أنني أنكرت ذلك عليها، فقال‏:‏ صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج، قال‏:‏ قلت‏:‏ اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فإن معي الهدي، قال‏:‏ فلا تحل، قال‏:‏ فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي عليه السلام مائة، قال‏:‏ فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال‏:‏ إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائها دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية موضوعة، وأول ربا أضعه‏:‏ ربانا‏:‏ ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا به إن اعتصمتم به‏:‏ كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون‏؟‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكسها إلى الناس‏:‏ اللهم أشهد، اللهم أشهد، ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام وصلى العصر، ولم يصل بينهما، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن فاقته القصوى إلى الصخرة، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق القصوى الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى‏:‏ أيها الناس‏:‏ السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلا حسن الشعر، أبيض، وسيما، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين، وطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا وسلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها من حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال‏:‏ انزعوا بني عبد المطلب‏:‏ فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه‏.‏

قال صاحب ‏(‏المقدمات‏)‏‏:‏ كانت حجته هذه في عام العاشر من الهجرة، وهي حجة الوداع، لم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الحج غيرها، وحج بمكة قبل فرضه حجتين‏.‏

‏(‏فوائد‏)‏‏:‏ من ‏(‏المعلم‏)‏‏:‏ قوله‏:‏ كلما أتى حبلا، الحبال دون الجبال، وهي مستطيلة الرمل، وقوله عليه السلام‏:‏ واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى، قيل‏:‏ الكلمة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏)‏‏.‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 229‏)‏ قال‏:‏ ويحتمل أن تكون إباحة الله تعالى في كتابه، وشرب من مرق الجميع لما في الأكل من الجميع من الكلفة، ونحر ثلاثا وستين إشارة، إلى عمره عن كل سنة بدنة، والخذف‏:‏ رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اصطلاح المذهب‏:‏ أن الفرض والواجب سواء إلا في الحج، فقد خصص ابن الجلاب وغيره اسم الفرض بما لا يجبر بالدم فقال‏:‏ فروض الحج أربعة، وليس المراد الواجبات؛ لأن كل ما يجبر بالدم واجب، كما خصص في كتاب الصلاة في السهو‏:‏ السنة بما يجبر بالسجود فجعلها خمسة مع أن سنن الصلاة عدها صاحب ‏(‏المقدمات‏)‏ ثمانية عشر، وقال‏:‏ يسجد منها لثمانية، فليعلم ذلك، ولنشرع الآن في بيان المقاصد، وهي اثنا عشر‏.‏